ها هو الرجل الملتحي ينظر إلينا من جديد. لقد اعتدت على رؤية وجهه ونظراته، ها هو جالسٌ في مكانه المعتاد؛ داخل إطارٍ معلق على حائط. صورته في كل مكان، في غرفة الجلوس، في بيت جدي ولدى الأقارب، الصورة ذاتها للرجل الملتحي، بملامحه الهادئة ونظرته الثاقبة.
هكذا تعرفت على “عمي” الدكتور حكمت الأمين من خلال الصورة. في السنوات اللاحقة أضفت إلى الصورة بعضاً من القصص التي سمعتها من والدتي، ومن اخوتي الأكبر سناً، الذين كانوا محظوظين بلقائه ومشاركته على الأقل بذكرى، بالإضافة إلى القصص التي يرويها الأقارب، والأصدقاء وكل من إلتقى به.
مرت السنوات بينما احتفظت بداخلي بصورته، وبعضٍ من هذه القصص، بالإضافة إلى الكثير من التساؤلات، والكثير من الفضول لمعرفته أكثر، ولمعرفة الرجل الذي في الصورة، والطبيب الإنساني، والمناضل والصامد في ظل أصعب فترات مرت على جنوب لبنان، ولمعرفة الدكتور حكمت الأمين.
كل هذه التسأولات دفعتني للقيام برحلة من نوع مختلف، رحلة البحث عن حكمت الأمين عشية الذكرى الـ26 لاستشهاده.
المرحلة الأولى…
منذ أن كان مراهقاً، لفت حكمت الأنظار خصوصاً بعد مغادرة عائلته لبنان إلى الكويت. عندها عاش حكمت في كفررمان، البلدة الجنوبية، برفقة جدته، في منزلٍ يتألف من طابقٍ أرضي، وغرفة في الأعلى – عاش فيها – أصبحت لاحقاً محطة يومية للشباب من عمره، أو الأكبر سناً، من الذين أعجبو بشخصيته المميزة، خصوصاً أنه كان طموحاً، ومسؤولاً، وصادقاً، وفي ومحب لكل من حوله.
كان لدى حكمت نزعة سياسية وميول للحزب الشيوعي، وعلى الرغم من أن مظهره كان يشير إلى عدم النضوج، إلا أنه فكرياً كان العكس تماماً، خصوصاً أن أفكاره السياسية، ومعتقداته التي ميزته، كانت محط ثقة لمن حوله، وشكلت نواة، وبداية تكوين شخصية القائد لدى حكمت. علي الأمين، قريب حكمت وصديقه، يؤكد أن حكمت كان مسؤلاً على الرغم من أنه كان بلا حسيب أو رقيب، مضيفاً أن منزل حكمت كان مفتوحاً للجميع ليلاً ونهاراً.
كانت الدراسة من أولويات حكمت، حيث كان يمضي وقته، حتى ساعات متأخرة من الليل، يدرس مما أثار الشك لدى سكان البلدة الذين تسألوا عن القاطنين في هذا المنزل، وعن سبب بقاء الأنوار مضاءة حتى بعد منتصف الليل، فكان الجواب: هذا منزل آل الأمين، وابنهم البكر يبقى مستيقظاً حتى ساعات متأخرة للدراسة، وهو من المتفوقين.
في العام ١٩٦٤ إنتسب حكمت إلى الحزب الشيوعي. وبعد فترة سافر إلى الإتحاد السوفياتي، حيث درس الطب العام، وطب الأطفال، قبل أن ينتقل إلى جنيف لمتابعة تخصصه في طب القلب والشرايين. الملفت أن حكمت إختار الدراسة في الإتحاد السوفيتي، وسويسرا، لكسب المعرفة من المدرستين، الشرقية والغربية، كما كان يردد في جلساته الخاصة.
وخلال تواجده في الخارج لم ينقطع حكمت عن العمل السياسي، بل تابع نشاطه من خلال العمل الطلابي والنقابي والحزبي، وكان ملتزماً بكل القرارات الحزبية، على الرغم من معارضته في بعض الأحيان.
في جنيف إلتقى حكمت بحب حياته، الدكتورة انطوانيت، التي أحبته إلى أقصى الحدود، ولحقت به إلى لبنان، بعد عودته، حيث تزوجا، وعاشا في منزل أهله المتواضع في كفررمان، ورزقا بثلاث أولاد: ليلى ومنى وجمال.
حكمت الطبيب…
في العام 1973 عاد حكمت الى لبنان طبيباً. في ذلك الوقت افتتح في الجنوب مستوصفات عدة تلبية لحاجة المجتمع. إحدى تلك المستوصفات كانت في الطابق السفلي من منزل حكمت. صباح اليوم الثاني بعد وصول حكمت من السفر كانت أبواب المستوصف مفتوحة للمرضى. ويتذكر خاله وصديقه محمد علي نورالدين ذلك اليوم بالقول: “لقد كنت المسؤول عن المستوصف، ويومها تغيب الطبيب المناوب عن الحضور، متابعاً ، وكان حكمت متواجداً حين سمعني أقول أننا سنعتذر من المرضى اليوم، فإذ به ينادني: أنا موجود اليوم، وظهر مرتدياً ردائه الأبيض والسماعة حول رقبته”.
يومها بدأت رحلة حكمت، الطبيب الإنساني. ويومها إستقبل عدداً كبيراً من المرضى، وأعطى كل مريض الوقت الكافي لمعاينته بدقة. وفي نهاية ذلك اليوم تطوع حكمت ليصبح من الأطباء المداومين، ليس فقط في هذا المستوصف، بل في كل مستوصفات المنطقة.
كان حكمت يداوم لساعات في مستوصفات المنطقة، من حبوش، وكفرتبنيت، وعربصاليم، دوير وغيرها، والملفت أن المعدل اليومي للمرضى في المستوصف كان في حدود العشرين، ولكن بعد تطوع حكمت ارتفع العدد إلى خمسين وصولاً إلى مئة مريض يومياً.
كسب حكمت ثقة، ومحبة، وإحترام الناس، خصوصاً أنه كان يعالج جميع المرضى، بغض النظر عن إنتمائهم السياسي، أو الطائفي، أو الحزبي. أحب وظيفته وأصبحت جزءاً منه؛ فعمله كطبيب لم يكن ينتهي مع مغادرة أخر مريض؛ بل كان يزور المرضى في منازلهم من دون موعد مسبق للإطمئنان على صحتهم؛ ليتحول بعدها الى طبيب العائلة وجزء منها.
ويقول خاله إبراهيم نورالدين إن حكمت “لم يكن لديه وقت للإهتمام بنفسه، وقته كان ملك الناس وكل من يحتاج للمساعدة”، مضيفاً: “كان يتبعه المرضى أينما ذهب، وفي بعض الأحيان الى منزلنا، حيث كان يعاينهم في الداخل، وأحياناً أخرى كان يضطر لمرافقتهم والعودة في وقت لاحق”.
بعد فترة قصيرة أصبح حكمت “طبيب الشعب”. كان ينام وأبواب المنزل مفتوحة، في حال مر أحد المرضى. وفي حادثة ذكرها أكثر من مقرب لحكمت أنه في يوم عاد إلى المنزل فجراً، ثم أتى أحد المرضى لزيارته، فإذ بوالدته تخبره أنه ليس موجود، خوفاً من أن يكون متعباً، لكنه عندما إستيقظ راح يؤنبها، معتبراً أنها تتحمل كل المسؤولية في حال حصل أي مكروه للمريض.
كان حكمت يستقبل الفقراء ويعينهم في أي وقت ومن دون أي مقابل، وحتى أنه كان يعطهم مالاً لشراء الدواء. في بعض الأحيان كان يعطي وصفة الداوء ويوقع بطريقة خاصة متفق عليها مع الصيدلي، الذي كان يعطي المرضى الدواء عند رؤية التوقيع، ويضيف الفاتورة على حساب حكمت ليسددها لاحقاً. أحبه الناس وحاولو مكافأته بهدايا بسيطة من المنتجات البلدية، وهذا كان يزعجه كثيراً لأنه لم يكن ينتظر مكافأة مقابل عمله. كل ذلك دفع الناس الى منحه لقب “طبيب الفقراء” كما يقول صديقه خليل ريحان. ويشير صديقه الآخر محمد مكه إلى أن “بساطة حكمت الطبيب الإنساني حولته إلى مفتاح لكل بيت في المنطقة، وكان الجميع يستقبلك إن كنت برفقة حكمت، ويثق بك”.
كان حكمت يسرع لتلبية نداء المساعدة بغض النظر عن الوضع الأمني، ولم يكن يفكر بسلامته. ويشير مكي إلى أنه “في أحد الأيام، وبعد حصول عملية على بلدة الخيام، وصلنا أنباء عن وجود جرحى، متعذر نقلهم إلى المستشفى، يومها جهز حكمت نفسه للذهاب وسأل إن كان أحد يريد مرافقته، ففعلت، وكان يقود السيارة بسرعة جنونية، وعلى طول الطريق كان محاطاً بالحطام والدماء حتى وصلنا إلى طريق مقفل، فأكملنا سيراً على الأقدام، وصولاً إلى البلدة حيث انتقلنا من منزل إلى الأخر لإسعاف الجرحى”.
ببساطة حكمت
يقول، صديق حكمت، يوسف حمزي إنه “كان إنسان راقي وهادئ، وعلى الرغم من أنني ناقد لاذع، لم استطع نقده يوماً، وهو ببساطة لم يخطئ، كان يخرج إلى عيادته في ساعات الصباح الأولى، ويزور المرضى في منازلهم حتى في ظل الخطر، وحاول كثر التشبه به، لكنهم لم ينجحوا، لأن لا مثيل له”.
بين الأصدقاء كان إنساناً متواضعاً، يمكن محادثاته في أي موضوع، ويستمتع بالمناقشة وسماع الرأي الآخر، في وقت كانت فيه فكرة الآخر تشكل خطراً، لكن حكمت كان يعامل الجميع بتساوي بغض النظر عن الإنتماءات. وكان زوجاً محباً وأباً عطوفاً، وكان يعشق أطفاله، على الرغم من أنه لم يستطع تمضية وقتاً طويلاً برفقتهم.
الفنان شربل فارس، الذي صنع تمثال حكمت في وقتٍ لاحق، قال: “الجانب الإنساني كان غالب لدى حكمت، كان قدوة كدكتور، وكإنسان، وحكمت النقي يخبئ في داخله فلاح بكل ما تحمله هذه الكلمة من ايجابيات، وبساطة، ونقاء، وكرم، ولطف وخجل”.
التحدي الأكبر…
في العام 1976، وفي ظل تفشي بشاعة الحرب الأهلية في لبنان؛ حصلت معركة في منطقة العيشية اسفرت عن سقوط عدد من الشهداء والجرحى. حينها خطرت لدى حكمت فكرة إنشاء مركز طوارئ حرب في منطقة النبطية تحت إسم “النجدة الشعبية”. كان مشروع “النجدة” بدأه الدكتور محمد دقيق في منطقة مركبة، وكان حكمت على تواصل معه، ويعالج في تلك المنطقة تحت إسم “النجدة”. وكان أيضاً طبيب متطوع في مركز “الشؤون الإجتماعية في النبطية”. وبحسب إلياس عجاقة كان المستوصف سيقفل عندما إقترح حكمت فكرته، فبقي المستوصف ولكن تحت إسم “النجده الشعبية”. وعبر علاقات حكمت الواسعة إنطلق “مشروع الليرة” وتبرع كل بيت بليرة لبدأ العمل بمشروع “النجدة الشعبية”، وفقاً لمحمد مكه.
بفضل التبرعات، والدعم، والمساعدة أصبح مركز الطورئ حقيقة في النبطية، وعندما أصبح الوضع غير آمن إنتقل المركز إلى دير الزهراني، ولاحقاً إنتقل إلى شقة في مبنى، بين بلدة كفررمان والنبطية. وفي العام 1978 حصل الإجتياح الإسرائيلي، مما دفع معظم سكان المنطقة إلى النزوح وترك منازلهم. وفي ظل هذا الوقت الحساس والمرحلة الحرجة غادر جميع الإطباء النبطية، بينما رفض حكمت المغادرة، وبقي الطبيب الوحيد لتلبية نداء الإغاثة.
ويقول ابراهيم نورالدين: “جميعنا غادر، بينما هو أصر على البقاء، وفي يوم هدأ فيه الحال قليلاً توجهنا إلى كفررمان لتفقد المنزل، ومررنا للإطمئنان عليه في “النجدة”، وطلبت منه الإنضمام إلينا في جباع ليرتاح قليلاً، لأن التعب كان ظاهراً على وجهه، لكنه نظرإلى وقال: إنت يا خال تقول هكذا، وفي هذه الظروف، وفي حال وقع مكروه ، من يعالج الجرحى؟ لن أغادر، سأبقى هنا”.
لاحقاً إنتقل مركز “النجدة” إلى المدرسة التكميلية في النبطية. وبعد فترة عرض مستشفى الجنوب للإيجار، فإقترح حكمت فكرة استئجار المبنى ونقل “النجدة” إلى هناك لتصبح مستشفى صغير، وحصل وانتقلت النجدة.
كانت منطقة النبطية تفتقد لوجود مستشفى، وكانت إحدى الحاجات الملحة، ونظراً لنجاح مستوصفات “النجدة”، ومركز الطوارئ، بدأت فكرة إنشاء مستشفى تطرح نفسها بين حكمت ورفاقه في الحزب الشيوعي، وفي “النجدة الشعبية”. رفضت هذه الفكرة، وبشكل ملفت، من قبل القادة وأصحاب القرار في الحزب، الذين اعتبروا أن فكرة إنشاء مستشفى حلم مستحيل، لكن هذا الإعتراض دفع إلى إعداد دراسة تبرهن وجود إمكانيات لبناء المستشفى. قدمت دراسة المشروع للقيادة، وبعد نحو سنتين أصدر قرار الموافقة.
عندما صدر القرار سافر حكمت، والدكتور محمد حنينو إلى الكويت في محاولة لجمع تبرعات لبناء المستشفى. هناك نظم حفل غنائي يعود ريعه لبناء المستشفى، واستطاعوا الوصول إلى وزير الصحة الكويتي، آنذاك، عبد العزيز خلف، الذي ساعدهم للتواصل مع العائلات المرموقة التي قدمت تبرعات لبناء المستشفى، لكنهم طلبوا أدلة بأن التبرعات ستخصص للبناء، فأرسل حكمت كتاباً إلى قيادة الحزب، ثم كتب المجلس الشيعي الأعلى، عبر السيد علي إبراهيم، كتاباً وارسل إلى الكويت يؤكد صحة الأمر. لكن التبرعات لم تقتصر على ما جمع في الكويت، اذ ساهم كثر في لبنان في تقديم الدعم، كما يؤكد الياس عجاقة، ومن بينهم أبو حاتم الأمين الذي تقدم بأول سيارتي إسعاف.
بعد العودة من الكويت تابع حكمت عمله في “النجدة”، بينما بدأت عملية بناء المستشفى، وذلك بعد الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982. كانت الأوضاع في الجنوب في ذلك الوقت تتأزم يوماً بعد يوم، وبدأت التهديدات الإسرائلية توجه لمستشفى “النجدة”، بعد أن لاحظ الإسرائليون دورها، ولم تنحصر التهديدات بالمستشفى بل طالت حكمت بالإسم، خصوصاً أن القوات الإسرائلية كانت تحقق مع كل شخص يعمل في بناء المستشفى.
في ذلك الوقت كان الخطر يشتد عموماً. القرى تبدو فارغة ليلاً، ولا يخرج أي شخص من المنزل، كما خلت القرى من الأطباء، الذين إنتقلوا مع عائلاتهم إلى القرى المجاورة الأكثر أماناً، لكن علي الأمين يؤكد أن حكمت “كان شجاعاً، ولا يهاب الخطر، وكان يقوم بكل ما يريح ضميره، وكان يتواجد في أي وقت، ولأي إنسان، وحتى في الأوقات التي كان يطلب منه البقاء بعيداً عن الأنظار كان يلبي نداء أي مريض”.
يستذكر محمد مكه حادثة حصلت، ويشير إلى أنه و حكمت كانا في بيروت لحضور مناسبة عامة، ويومها تلقينا نصائح بعدم العودة إلى النبطية في هذه الساعة، وعليه امضينا الليلة في بلدة المشرف، وفي الصباح توجهنا الى النبطية، على الرغم من أن القصف لم يتوقف. وصلنا إلى جسر الزهراني، الذي كان تحول الى رماد بفعل القصف. أجبرنا نتيجة القصف على الإختباء تحت حائط عندما سمعنا صوت جراء تعوي بجانبنا، فنظر الي وقال: سنلطي مع الكلاب، لكن المهم ألا نموت ميتة الكلاب.
هاجس حكمت اليومي كان “النجدة”. وكان يستغل كل علاقته من أجلها. جمعته علاقات طيبة مع الراهبات في المنطقة اللواتي دعمنه كأخ، وأمنّ له المساعدات الطبية وقت الحاجة. بالإضافة إلى ذلك، جمعته علاقات طيبة مع شخصيات دينية مرموقة، أمثال السيد هاني فحص والسيد محمد حسن الأمين، وغيرهم. كما كان له علاقات مع الصليب الأحمر الدولي، وأطباء بلا حدود، وغيرهم من المنظمات الدولية.
حلم حكمت بتأسيس فروع لـ”النجدة” في مختلف المناطق. ووفقاً لمحمد مكه، كان حكمت بدأ بإستخدام صداقاته في تعنايل، وطرابلس، وصيدا، وصوفر، وبرج البراجنة، الذين أبدوا حماستهم لإنشاء فروع لـ”النجدة” عبر الطريقة نفسها التي اتبعت في النبطية.
كان حكمت مدير “النجدة” في النبطية، وكانت الأرباح تودع في حساب مشترك، باسمه وبإسم مكة. وكانت تعطى هذه الأموال للحزب عندم يطلب، كما كانت تستخدم لشراء ممتلكات لـ”النجدة”. وفي يوم رفض حكمت اعطائهم النقود من دون طلب رسمي من قادة الحزب، وفق مكه، فأحضروا الطلب، في وقت لاحق، وتم تحويل كامل المبلغ إلى حساب مشترك بإسم شخصين مقترحين من قبل قيادة الحزب. وبعد هذه الحادثة تم تجميد عضوية حكمت في الحزب، والمستشفى، وتم تعين مدير جديد مكانه. ورغبةً منه في الحفاظ على سمعته رضي بالقرار الجائر، لكن الزملاء عارضوا، واضربوا عن العمل، وحينها طلب حكمت من مكة فض الإضراب، موضحاً أنه جزء من الحزب، وقبوله بالقرار، يفرض عليهم القبول أيضاً، صائباً كان أو مخطئاً. ومع صعوبة الموقف أجبر مكه أن يطلب منهم فض الإضراب. وتقبل حكمت القرار الجائر، لكنه لم يبعده عن مراقبة نشاطات الحزب السياسية عن بعد. وبعد تفعيل عضويته، اوكل اليه منصب مسؤول العلاقات الإجتماعية و السياسية في الجنوب، محاولين ابقاؤه على مسافة من عمله الإنساني.
محاولات الإغتيال و مرحلة الإبعاد
إزداد توتر الأوضاع بعد العام 1982، حيث سيطرة قوى الأمر الواقع على المنطقة، متبعة سياسة: لا للعودة لما قبل 1982. في تلك الفترة إرتفعت وتيرة التهديدات ضد حكمت، بالتزامن مع اغتيال عدد كبير من المفكرين، والأطباء، والقادة، خصوصاً المنتمين إلى الحزب. وعلى الرغم من أنه كان يدرك المخاطر التي كانت تحيط به، إلا أنه كان على قناعة بأن الناس في حاجة اليه كطبيب، معتبراً أن سلاحه هو السماعة، وكان يردد: طالما السماعة حول رقبتي لن يقتلوني.
تعرض حكمت لعدة محاولات إغتيال، من بينها حرق سيارته، ومخزن الأدوية، ومحاولة إغتيال زوجته. وإحدى تلك المحاولات يرويها كل من صديقه يوسف حمزي وشقيقه الأصغر أنور. ونظراً لخطورة الوضع في الجنوب كان هناك بعض من المقاتلين المتخفين يعملون لحماية “النجدة” وفريق الأطباء. وبينما كان أحد المقاتلين في حفل مع الأصدقاء، اقترب منه أحد الحاضرين، وكان يبدو ثملاً، قائلاً: غداً في تمام الساعة الثامنة مساءً سنقتل حكمت الأمين. حاول المقاتل تمالك أعصابه، وفي صباح اليوم التالي، أبلغ حكمت ما سمعه، فإتجه حكمت في تمام الساعة الرابعة من بعض الظهر، متخفياً، إلى بلدة عربصاليم المجاورة، حيث أمضى الليلة عند صديقه حكمت فرحات، بينما قصفت نقطة محددة بالقرب من منزله لاحقاً. وفي تمام الساعة السادسة صباحاً لبس حكمت جاكيت عسكري، وإتجه سيراً على الأقدام، في الوادي بين كفرحاتا وكفرملكي، وصولاً إلى الشارع العام، حيث كانت تنتظره سيارة اقلته إلى بيروت، حيث أمضى عدة أيام، قبل أن يسافر إلى جنيف، إلى حين زوال الخطر، وبعد فترة عاد إلى الجنوب وتابع عمله الطبيعي.
في العام 1986, تأزمت الأوضاع في الجنوب، وأصبحت التهديدات التي توجه الى حكمت يومية، مما دفع عدد من الأصدقاء إلى الضغط على حكمت للمغادرة. وفعلياً ترك حكمت منطقة النبطية، وإستقر في مركز الحزب في صيدا، حيث تابع عمله الطبيعي، وإستقبل المرضى، حتى أولئك الذين انتموا الى “قوى الأمر الواقع”، لأنه كان يعتبر نفسه طبيباً للجميع.
خلال تواجده في صيدا نسج علاقات وطيدة مع الفلسطينين، والفئات المختلفة في المنطقة. وعندما طال الخطر عائلته، عبر محاولة إغتيال زوجته، الطبيبة الإنسانية أيضاً؛ انضمت العائلة إليه وانتقلوا للعيش في منزل متواضع في الرميلة، بالقرب من مركز الحزب. وتنقل بين الرميلة وصيدا حيث إفتتح عيادة له في صيدا لإستقبال المرضى. ويشير زياد صعب، القائد العسكري في الحزب الشيوعي حينها، إلى أن “المنطقة كانت عبارة عن منطقة عسكرية، ومرضى حكمت كان عليهم المرور عبر الحاجز للوصول إلى منزله”.
وكان حكمت يستاء من جنود الحاجز لمنعهم دخول بعض المرضى لأنهم يشكلون خطراً عليه، خصوصاً أن حكمت كان مسؤولاً عن العلاقات السياسية والإجتماعية في الجنوب، لكنه لم يكن، وفق ما يؤكد المقربون منه، سعيداً بهذا المنصب، لأنه لم يكن رجل سياسة، ولا يعرف كيفية التعامل مع الأسحلة، بينما كان أجبر على حيازة مسدس. والملفت أن الرفاق في دائرته الأوسع لم يشعروا بذلك، كما يقول حازم الأمين، ويضيف: “كنت أراه دائماً مبتسماً وطبيعياً”، على الرغم من أنه كان مبعداً، إلا أنه كان، وفق أخاه أنور، يعامل الجميع بطريقة حسنة، ويلاحق أمور المساعدات، ويتأكد من وصولها إلى بلدته. كما أنشأ عيادة صغيرة داخل منزله، بالإضافة إلى صيدلية فيها أدوية اشتراها على نفقته الخاصة، ووزعها من دون مقابل في معظم الأوقات.
نهاية رحلة مثمرة…
آمن حكمت بحاجة الناس له وكان يصر على العودة دوماً: “أنا طبيب ولن يقتلوني”، كان يردد. واصراره دفع بقيادة الحزب إلى إصدار قرار يقضي بعودته إلى البلدة، على الرغم من تحفظها على خطورة الأمر. وعندما علم بالقرار “ظهرت الفرحة نفسها في عينيه التي ظهرت عندما إتخذ قرار بناء النجدة”، كما قال محمد علي نورالدين.
بعد عدة أيام من قرار العودة في 26 كانون الأول 1989، نفذ الحزب الشيوعي عملية ناجحة في تلة برغز، دفعت الجانب الإسرئيلي إلى الإستنفار للرد. وفي ذلك اليوم إجتمع عدد من قيادات الحزب الإشتراكي وقيادات الحزب الشيوعي في الدير. وتلقى محمد علي نور الدين إتصالاً من حكمت، واتفقا أن يمر لرؤيته. ووفقاً لمحمد علي نور الدين، حلقت خلال الإجتماع طائرات الإستطلاع فوق المركز، وقرروا فض الاجتماع تحسباً. ويشير زياد صعب إلى أنه أمر “كل من لا عمل له بالمغادرة، وبقي فقط عامل الهاتف، والفاكس واللاسلكي، وكان علي البقاء، ولكن تلقيت إتصال دفعني للمغادرة، لإحضار إخراج قيد لإبنتي لكي تتسجل في المدرسة”.
غادر كل من زياد ومحمد علي، وبقي قاسم بدران (أبو جمال)، وفيما كان يتحدث على الهاتف، وصل حكمت، بالتزامن مع تنفيذ طائرة إسرائيلية لغارة على المركز. وفي لحظات إنتهى كل شيء، وانتهت رحلة حكمت، الطبيب، والأب، والرفيق، والإنسان… واختفت فرحة ولمعة عينيه بينما نام نومته الأبدية.
الرحلة الأخيرة
إستشهاد حكمت شكل حالة من الصدمة لدى عائلته، ورفاقه، وكل من عرفه. في يوم التشييع منعت القوات الإسرائيلية وقوات لحد السيارات من دخول كفررمان. وكان موكب التشييع حاشداً، وبدأت رحلة العودة من بيروت وتخللها عدة محطات وصولاً إلى كفررمان. ومع إصرار الحشود على دخول البلدة غير ابهين بالخطر، قائلين: “إذا حكمت راح، نحن مش أهم منه”، وبعد إتصالات عدة عن طريق الصليب الأحمر اللبناني والدولي، رفعت القوات الإسرائيلية شارة بيضاء على تلة الطهرة سامحين للموكب بدخول، لكنها قصفت البلدة بعد إنتهاء مراسم التشييع.
تحققت أمنية حكمت بالعودة، ولكنه عاد إلى مثواه الأخير. بنيت لاحقاً المستشفى التي حلم بها، لكنه لم يحظى بفرصة دخولها كطبيب. كما حملت إسمه، وبعد عدة سنوات نصب له تمثال في باحتها من صنع الفنان شربل فارس الذي عاش صراع لتصوير حكمت الشهيد، والطبيب، الأب، والصديق الذي فقده. ومنح لاحقاً وسام الأرز الوطني في العام 1991 برتبة فارس، وفاءً لذكراه.
غادر حكمت باكراً، ولم يستطع تنفيذ جميع مشاريعه؛ ومنها بناء مدرسة مجانية للأيتام، وأولاد الشهداء، وبناء مدرسة تمريض محاذية للمستشفى. كان يخطط أيضاً لبناء مجمع للخدمات الإجتماعية والطبية عبر التبرعات.
يقال عن حكمت أنه “الشهيد البطل”، و”حالة لن تتكرر”، و”حكاية”، و”طبيب الفقراء”، و”بطل”، و”طبيب إنساني”، أما بالنسبة لي فهو القدوة، والمثل الأعلى، وخلال رحلة البحث حاولت أن أجدك في عيون كل من عرفك، وعرفت أنك لم تكن تبحث عن الألقاب، ولكنك فعلت كل ما اراح ضميرك. وفوق كل هذا هو “عمي”.
· ملاحظة: ما ورد ليس سيرة حياة انما محطات من حياة حكمت أردت الإضاءة عليها. كل ما هو مكتوب هو نتيجة مقابلات وبحث عن حكمت الطبيب والإنسان؛ وتوصلت إلى العدد من الأسرار والقصص المخفية ولكن بعض الأمور من الأفضل أن لا تنشر.
So proud of you, baby Sis! Amazing job in searching, researching, interviewing, capturing the various milestones, and capturing the attention of us readers in your peice of art. “Uncle” is my moral compass … a wonderfull human with a beautiful soul! Thank you, Nour, for sharing your search journey with us and for publishing a post that lives up to uncle’s legacy and principles.
Love,
Ahmad
LikeLiked by 1 person
Uncle is an unusual man and the least we can do is to spread his story, his morals and humanity.
I couldn’t have done this if it wasn’t for all your support.
Love you more!
LikeLike